14/01/2023 - 22:00

حوار مع د. مرام مصاروة | التعليم في القدس والأسرلة الزاحفة

قالت د. مرام مصاروة في سياق استهداف مدارس القدس، إن إسرائيل تستخدم إستراتيجية العصا والجزرة، فهي تعطي امتيازات للمدارس التي تتجاوب مع سياستها وتضيق الخناق على الرافضين، علما أن ذلك مخالف لقوانينها

حوار مع د. مرام مصاروة | التعليم في القدس والأسرلة الزاحفة

(Gettyimages)

في كتابها "التعليم في القدس الشرقية – الأسرلة الزاحفة (1967-2022)" الذي صدر، مؤخرا، عن مركز "مدار"، تقول د. مرام مصاروة، إن المشهد التعليمي في القدس لا يختلف عن مشهد حياة المقدسيين اليومية في كافة القطاعات الحياتية التي تعاني تحديات كبيرة يفرضها الاحتلال عليهم، يوما بعد يوم، فإسرائيل تعمل منذ احتلالها القدس في العام 1967 ضمن خطة ممنهجة وإستراتيجية لضرب قطاع التعليم، وربطه بجهاز التعليم الإسرائيلي من النواحي الاقتصادية، والإدارية، والتعليمية بهدف فرض سيطرتها على الأرض والإنسان الفلسطينيين.

ويندرج ذلك المخطط في محاولات طمس كامل معالم الثقافة الوطنية وضرب عروبة القدس وأسرلتها ومحو الهوية الثقافية للمدينة وتزوير التاريخ، ونزع وعي الطلبة من خلال التدخل في المناهج الفلسطينية وتحريفها، بما يتماشى مع سياسة الاحتلال الهادفة لتكريس عزل المدينة عن واقعها ومحيطها الفلسطيني من خلال سلسلة من القرارات والإجراءات التي بدأتها بإلغاء المنهاج الأردني، وإغلاق مكتب التربية والتعليم، وسن قانون الإشراف على المدارس الخاصة، ومحاولة فرض المنهاج الإسرائيلي.

وترى مصاروة أن التحدي الأكبر الذي يواجه مستقبل التعليم في القدس، بالإضافة للتحدي السياسي الذي يواجه مدينة القدس وسكانها هو الواقع الاقتصادي الذي يتمثل بظواهر عدة أهمها فصل الاقتصاد المقدسي عن الاقتصاد الفلسطيني وربطه بالاقتصاد الإسرائيلي.

وتبتغي سياسات الاحتلال المبنية على سيطرة وهيمنة استعمارية، خلق سيادة فوقية وتعزيزها، ودونية طبقية عربية في القدس، من خلال استخدام آليات قمع، منها المرئية وغير المرئية وهي سياسات تستهدف القطاعات ولا تستهدف الفقيرة غير المستقلة فحسب، بل تستهدف أيضا الشرائح الأفضل من الناحية الاقتصادية تلك التي تتحدّى بوجودها علاقات القوة الكولونيالية فالعلاقة الأولى لا تصبو فقط إلى السيطرة بل إلى المحو والإحلال.

وتقوم هذه السياسات، كما يفيد الكتاب، على ربط جهاز التربية والتعليم والاقتصاد من خلال آليات السيطرة على متطلبات سوق العمل. فسياسات الاحتلال تعي أهمية التعليم كمحور للتغيير والتحويل، حيث يعتبر هذا الجهاز أحد المجالات الرئيسة والأكثر فاعلية المتاحة للأنظمة الكولونيالية لهندسة الوعي القومي، السياسي والاجتماعي، ولإنشاء السيطرة على المواطنين في إطار التعليم النظامي وغر النظامي.

وهكذا، من خلال نظام التعليم، يرسخ الاحتلال منظومة القيم والمعايير والهوية الوطنية للواقعين تحت الاحتلال وتضمن التزامهم بها. هذه الآلية هي التي تعول عليها منظومة الاحتلال المتبعة حاليا في القدس الشرقية.

وتشير مصاروة إلى لجوء إسرائيل لمنطق الإلغاء والمحو الذي يشمل إستراتيجيات عدة، منها التشجيع على تبني قيم المحتل ومعاييره، وانهيار تشريعات السكان الأصلانين، واستحداثات أخرى تشجع على المواطنة، والتحول الديني، وإعادة التنشئة الاجتماعية في المجتمعات المحلية وشتى أنواع المحاكاة البيوثقافية.

في هذا السياق الاقتصادي يصبو هذا المشروع الكولونيالي لفرض سيادته وهيمنته على اقتصاد الأقليات التي تشرعن من خلال فرض السياسات التربوية التي تستخدم لضبط الحياة السياسية والاقتصادية لهذه الأقليات، وعليه فإن استمرار الوضع السياسي والاقتصادي يعني توجه اقتصاد القدس نحو المزيد من الاندماج على ما هو عليه حاليا في الاقتصاد الإسرائيلي وقطع الاتصال مع بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة في قطاعات حيوية مثل سوق العمل، والنظام الصحي، والخدمات التعليمية والاجتماعية، والمواصلات، والسياحة، والتجارة.

"عرب 48": الكتاب يأتي في وقت تتصاعد فيه المحاولات الإسرائيلية لفرض المنهاج الإسرائيلي على مدارس القدس وتصدي الأهالي والمدارس لهذه المحاولات..

د. مرام مصاروة

مصاروة: إذا لاحظت فإن الكتاب محدد بفترة زمنية 1967- 2022 وهي تنتهي تحديدا يوم إضراب طلاب القدس ومدارسها احتجاجا على محاولات فرض المنهاج الإسرائيلي، وهو يرصد كل الصيرورة التعليمية والمراحل التي مر بها جهاز التربية والتعليم في القدس منذ عام 1967 ويتوقف عند "الخطة الخمسية" الإسرائيلية ويعالج كيفية تطبيقها في ظل التحولات السياسية والاقتصادية والقرارات التي جرى اتخاذها بما يتعلق بجهاز التعليم وكيف أثرت هذه المركبات على فلسطينيي القدس.

"عرب 48": ما هي الخطة الخماسية وما هي أخطارها؟

مصاروة: الخطة الخماسية تشمل تغيير المناهج الفلسطينية إلى مناهج إسرائيلية واتباع المنظومة الإسرائيلية والبجروت، بما يشمل انضمام المدارس بشكل تام لوزارة التربية والتعليم الإسرائيلية وبلدية القدس، الأمر الذي يعني إشراف وتفتيش كامل على المدارس من قبل منظومة التفتيش التابعة للوزارة.

الحديث يدور عن جميع مدارس القدس بتصنيفاتها المختلفة، رسمية حكومية أو تابعة لوكالة غوث اللاجئين "أونروا" وكذلك المدارس الخاصة الكنسية والتابعة للوقف الإسلامي، وهو ما يعني أسرلة جهاز التعليم المقدسي و تثبيت سلطة إسرائيل وسيادتها على القدس بشكل مخالف لكل القوانين والمواثيق الدولية.

ولتمرير هذه السياسة تستخدم إسرائيل إستراتيجية العصا والجزرة، فهي تعطي امتيازات للمدارس التي تتجاوب مع هذه السياسة وتضيق الخناق على الرافضين، علما أن ذلك مخالف لقوانينها لأن مدارس شرقي القدس تدفع الأرنونا لبلدية القدس ولذلك يجب أن تحظى بالخدمات والميزانيات من البلدية.

"عرب 48": ولكن مؤخرا تحول "التشجيع" إلى تهديد خاصة في قضية فرض المناهج، حيث جرى سحب تراخيص بعض المدارس ولذلك جاء الإضراب الأخير..

مصاروة: صحيح، لقد جرى سحب تراخيص بعض المدارس وجرى إرسال إخطارات تهديد لمدارس أخرى بادعاء أنها تدرس كتبا تحتوي "مواد تحريضية" بمعاييرهم، والمقصود المنهاج الفلسطيني، وفي غضون ذلك جرى فصل العديد من المعلمين بـ"ذرائع أمنية"، وباتوا يدققون في شهادات المعلمين خريجي الكليات الإسلامية ويضعون علامات استفهام حول شهاداتهم وحول استمرار مزاولتهم للمهنة.

"عرب 48": وما هو دور السلطة الفلسطينية في هذا الصراع؟

مصاروة: السلطة الفلسطينية لم يعد لها دور فقد خرجت أو أخرجت من الساحة، تاركة فراغا كبيرا، وهذا سبب مركزي للحال الذي وصل إليه الوضع، أي غياب جسم سياسي ثقافي اجتماعي تربوي يأخذ مسؤولية على جهاز التعليم، باستثناء لجنة الأهالي ومؤسسة فيصل الحسيني وبعض المؤسسات التربوية الثقافية مثل برج اللقلق وغيره، الذين لديهم رؤية اجتماعية سياسية يحاولون تطبيقها على أرض الواقع ولكن الإمكانيات المتوفرة محدودة جدا مقارنة بوزارة التعليم الإسرائيلية، التي تمتلك مقدرات هائلة وهي تصرف بغير حساب من أجل تمرير مخططات إلحاق جهاز التعليم هناك بالمنظومة الإسرائيلية.

وعلى سبيل المثال المعلم التابع للسلطة الفلسطينية من الممكن أن يتقاضى 1500- 2000 شيكل شهريا وهو راتب لا يقارن برواتب وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، وكما نعرف فإن مستوى الحياة في القدس غال جدا والسكان الفلسطينيين يعيشون في مستوى حياة "إسرائيلي" من ناحية تكلفة المعيشة بدخل فلسطيني (الضفة الغربية) ولذلك يقعون في أزمة دائمة، من هنا فإن من يرفضون الإغراءات الإسرائيلية يستحقون كل الاحترام والتقدير.

"عرب 48": ما هو الوضع القائم اليوم من ناحية مناهج وأقصد منظومة "البجروت" أو التوجيهي؟

مصاروة: وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية تعطي للمدارس الحق في الاختيار بين "البجروت" والتوجيهي داخل المدرسة نفسها، وهي بذلك تفتح ثغرة في جدار الرفض الفلسطيني بالإبقاء على خيار "البجروت" قائما مع إعطاء الكثير من المحفزات للذهاب نحو "البجروت".

وللحقيقة، نفعيا هناك الكثير من الإغراءات باتجاه الذهاب لـ"البجروت"، أولا التوجيهي هو امتحان لمرة واحدة تحدد مصير الطالب بشكل نهائي، بينما في "البجروت" بإمكانه الإعادة إلى ما لا نهاية حتى يحصل على النجاح، ناهيك عن أن الجامعات والكليات الإسرائيلية تفتح أذرعها ضمن مخطط سلطوي شامل لاحتواء طلاب القدس وتعطي حوافز تعليمية واقتصادية كبيرة، هذا إلى جانب انفتاح سوق العمل الإسرائيلي أمام خريجي الجامعات والكليات الإسرائيلية.

كل هذه العوامل تسعى إلى تحويل جهاز التعليم في القدس من هندسة سياسية أيديولوجية فلسطينية بحت إلى خصخصة، هكذا قرأت الواقع.

"عرب 48": إذن، يستعملون كل الامتيازات التي يمنحها جهاز التعليم الإسرائيلي مقابل كل العقبات والتضييقات التي وضعوها لفصل القدس عن محيطها الفلسطيني..

مصاروة: صحيح، هم يبنون الجدار ويخنقونك اقتصاديا، يغلقون الضفة ويفتحون أمامك أبواب إسرائيل ومؤسساتها التعليمية المعززة بالبرامج والمنح الخاصة وسوق العمل بعد التخرج، ثم يعطونك لأول وهلة حرية الاختيار!

"عرب 48": لكن بالرغم من كل ذلك فإن نسبة الذين يتجهون لهذا الخيار ما زالت قليلة؟

مصاروة: وهؤلاء، أيضا، الذين أجريت مقابلات مع بعضهم لغرض البحث (الذين يدرسون في جامعات وكليات إسرائيلية) يقولون إن قرارنا براغماتيا ولا يعكس وجهة نظر سياسية، فنحن في نهاية المطاف مقدسيين وهويتنا فلسطينية وتربيتنا الوطنية اكتسبناها من بيوتنا وليس من المدارس، وهي مناهج لن تستطيع إسرائيل تغييرها.

"عرب 48": ولكن إسرائيل كما دول استعمارية أخرى تعي أهمية جهاز التعليم في سياسة الضبط والسيطرة والتأثير على الهوية الثقافية والوطنية وتحاول تغييره ضمن مخطط أسرلة زاحفة، كما أسميتها؟

مصاروة: الأدبيات النقدية توضح، أنه وفي سياق سياسي محدد مثل الصراعات القومية والعرقية والتوتر بين المجتمعات، يمكن أن يتحول التعليم إلى وسيلة للإخضاع الممنهج،ُ ففي مثل هذ السياقات يتم استخدام التعليم للحفاظ على الوضع الراهن وتعزيز الطاعة، واحترام السلطة المطلق، والرد أحادي الجانب للحقيقة.

و يمكن أن يظهر القهر من خلال التعليم في استبدال لغة الناس، وثقافتهم، وأديانهم، وطرقهم التربوية بلغة القوة الاستعمارية، وفي حالة المقدسيين فإن الصراع على المناهج ومضامين جهاز التربية والتعليم من قبل وزارة التربية والتعليم وبلدية الاحتلال ما هو الصراع على التاريخ والسياسة والثقافة والفنون واللغات والعلوم، فكلها تخصصات تهيمن عليها الأيديولوجيات السياسية العرقية وتتلاعب بها، وتسعى إلى تقويض قدرة الفلسطيني على التعبير عن أي أفكار، وزيادة استعباد عقله من خلال المنظومة التعليمية المبتغاة، والفرض على المقدسي بأن يفكر بما يتماشى مع ما هو مطلوب منه وفق السياسات الإسرائيلية في سياق استعماري، وهنا ساحة المعركة.


د. مرام مصاروة: باحثة ومحارضة أكاديمية. نالت درجة الدكتوراة من الجامعة العبرية في القدس، وتحاضر حاليا في أكاديمية القاسمي، وجامعة تل أبيب والجامعة العربية الأميركية في جنين. تركز أبحاثها على التربية الشمولية وسياسات الهوية والذاكرة.

التعليقات